ظلال الماء
كان يتلفت في الظلمة باحثا عنه , أو بالأحرى باحثا عن نور كشافه اليدوي , لكنه لما يرى شيئا , فأنار ضوء هاتفه المحمول لعله يستطيع أن يبصره , فلم يقدر , فدق على هاتفه ليصدع صوت هاتفه المحمول في تلك الدياجير الموحشة , و لولهة أدرك أنه استطاع تحديد مكانه لكنه سرعان ما تشتت بسبب صدى الصوت , و فجأة صرخ صاحبه : أنا هنا . أنا هنا . و أشار بيديه و هو يحمل هاتفه المحمول المضاء , ثم انثنى نحو الكشاف و التقطه , فقال صاحبه بلهفة : ها أنا قادم .
قال له و هو يلهث لهثا خفيفيا : كيف حالك ؟ يبدو أنك كنت نائما .
فرد محاولا تخفيف وقع جوابه عليه : لا لقد كنت غافيا .
- أي غفوة تلك التي تجعلك ترد على هاتفك بعد حين ؟ لو يدري عنك مسؤولو الشركة التي تحرس عقارهم هذا لفصلوك شر فصلة .
- يا رجل و من سيأتي ليسرق في بلدنا هذا قضبان الحديد و أحجار البناء ؟
- فرد بسخرية : أو الجرافات أو الرافعات , أو الواجهات الزجاجية و أو ... و أو .. و أو .
- فرد مذعنا : يا رجل ها قد مرت تلك الغفوة على خير .
- فقال له باستنكار ممزوج بالسخرية : غفوة ؟؟
- استح على وجهك يا فتى إني أكبر من أبوك .
- نحن الجيل اليوم حفظنا مقولتكم يا أجيال الزمن الغابر , إنكم لجيل فاسد , إننا كنا نعاني الأمرين لنعيش , إنكم لا تشعرون بقيمة النقود , إن النظم التعليمية هذه الأيام متساهلة , إننا أكبر من أبائكم .
- ألا تشعر أن في ردك هذا وقاحة .
- فقال له بلهجة جادة و هو كانن المزاح في نفسه : أنا آسف . سوف أمشي لا أريد أن أزعجك أكثر من ذلك يا جدي .
- فرد عليه محاولا استدراك الموقف : يا رجل إلى أين تذهب ؟؟ لقد كنت أمزح معكم . إنكم أنتم الشباب الخير و البركة . لقد كان جل صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم من الشباب .
- فعلق على ما قاله بنبرة تأكيدية : أها أنت قلتها جلهم من الشباب .
ثم جلس على طوبة بناء أمام صاحبه الذي كان يجلس على واحدة أخرى .
فسأله العجوز باستغراب : صحيح لم تقل لي ما الذي يلذك على الجلوس مع عجوز مثلي و بعد منتصف الليل ؟
قال له : ما يلذني على ذلك إلا أني أحببت جلستك . و أما بعد منتصف الليل فهذا هو وقت فراغي .
- و لماذا هذا السهر الطويل يا بني ؟
- ألم أقل لك من قبل أن الامتحانات النهائية اقتربت و أني معتكف في المنزل للدراسة فإذا انتهيت منها جئت لك لأقضي معك الوقت المتبقي من الليل حتى صلاة الفجر .
- فقال و هو رافع حاجبيه و يهز رأسه : نعم . نعم . لقد قلت ذلك لي مسبقا , لكن لماذا أنا ؟
- فبسط يديه في الهواء و هز رأسه قائلا : لأنك ببساطة الوحيد المستيقظ في هذا الشارع الطويل .
- لكن ألم تسأل نفسك لماذا أنا أرضى بصحبتك ؟
- لماذا ؟
- ببساطة لأني أحببتك . و ليس لأي سبب آخر .
- و أنا قلت هذا مسبقا . ألم أقل لك أني أنست بصحبتك و أحببت جلستك ؟
- فقال له : دعنا من هذا الحوار السقيم شاب و عجوز قال ماذا يتحاورنا لماذا تجلس معي و لماذا أجلس معك ! هيا لنجمع بعض عيدان الخشب و أكياس الاسمنت لنعد براد من الشاي استعدادا لهذه السهرة .
- فقال ضاحكا : و الله إنك لتشعرني بأني في عرض سينمائي بحديثك هذا .
- انك في أكثر من مجرد عرض انك معي أنا .
- يا رجل !
- يا فتى اصمت و ابحث .
و أخذا في البحث حول المبنى حتى جمعا ما يكفيهما , ثم جهزا برادهما و أوقدا النار , و جلس كل منهما على طوبته , و أخذا يتأملان في النار في سكون تام , ثم قال العجوز بنبرة يائسة : عجبت للشاعر احتاج ثمانين عاما ليقول : ((سئمت تكاليف الحياة و من يعش * ثمانين حولا لا أبا لك يسأم)) عندما كنت شابا كنت معجبا بالأبيات التي تتحدث عن العزيمة و المجد أمثال ((من رام وصل الشمس حاك خيوطها * سبباً الى آماله وتعلقا)) و ((ومن يتهيب صعود الجبال * يعش أبد الدهر بين الحف)) و ها أنا ذا أعيش الحفر , أنتقل من مبنى إلى آخر لأقضي لياليي وحيدا بين قضبان الحديد و أتلال الرمال و الحصى و كتل الطوب , أعاشر الأشباح و أراقب حياة الجرذان , و كل هذا طلبا لحفنة من الأموال , أكفي بها نفسي و امرأتي و بناتي عن الحرام .
ثم ألتقط قضيب حديد صغيرا ليحرك بها النار تخت البراد .
فرد عليه : انك لرجل ناجح , و ماذا يريد الرجل في حياته أكثر من السترة و الانكفاف عن الحرام , فالفقر يدفع الكثيرين للفجور كما يفعل الفراغ و الغنى .
- فرد بحزن محفوف بالسخرية من حاله : أي نجاح هذا , تالله إنك لأنت الناجح . إنك لتسهر الليالي طلب للعلم أما أنا هنا أسهر الليالي حراسة للمباني .
ثم ضحك على جملته المسجوعة و قال : الليالي و المباني , و لا أدري لماذا أنا معك أناجي .
ثم ضحك مرة أخرى .
شعر الفتى بالأسى على صديقه العجوز و قال له : صدقني انك هنا لتعيش أجمل حياة , من ذا الذي لا يحب هذا الهدوء و السكون الذي تعيش فيه ؟! لقد شاهدت في التلفاز الكثير من المشاهير يجوبون الدنيا بحثا عن هذا الهدوء , و يتمنون أنهم لم يدخلوا تلك المجالات التي تسببت في شهرتهم . إن النجاح من منظوري اتمام العمل و ليس الشهرة و كسب المال .
ثم وضع وجهه في وجه صاحبه و قال : هل سبق أن اشتكى منك أربابك في العمل ؟ و هل اشتكت منك امرأتك و بناتك و عايروك بنتقصير و نحوه ؟
شعر العجوز براحة نفسية بعد سماعه تلك الكلمات فانقلب على ظهره و مال بجسمه بعيدا عن براد الشاي و اضعا يديه تحت رأسه ثم أخذ ينظر في السماء و قال : أصبت .
ابتسم الفتى و نام على ظهره مثله .
قال العجوز بهدوء شديد : يبدو أنك شديد الحكمة يا فتى .
فضحك و قال : لا يا رجل لقد جاءت معي هكذا , كما أنك أكبر مني في السن فأنت إذن أحكم .
- لا تسفه من نفسك يا فتى .
قالها و هو ينظر نحو صاحبه الذي كان يهم بالكلام , فصرخ و قال له : انظر إلى تلك الحشرة .
فاضجع على جنبه و قال أي حشرة ؟
و إذا بحشرة تطير بسرعة كبيرة لتهوي في وسط النار .
قال الفتى : ماذا يمثل لك هذا الموقف ؟
- الموت في سبيل ما تحب .
استغرب الفتى من هذا الجواب و أخذ يقلبه في دماغه ثم قال : أما أنا فأراه يمثل البلاهة .
- لا تخنع لظواهر الأمور . فبمبدأك هذا صمت الفتى لوالده الذي يهينيه و تقدير المحب لمحبوبه رغم تعززه و اهلاكك لنفسك بالسهر للدراسة بلاهة .
و فجأة و بدون سابق انذار فار براد الشاي , فرفعه العجوز من على النار بينما قام الفتى ليجلب علبة الزيت الصفراء القديمة و التي يستخدمها عمال البناء لحفظ بعض المياه للغسيل و نظفا كوبين زجاجين , و سكبا شايهما .
ثم قال الفتى : و ماذا يمثل لك فوران الشاي ؟
- الرغبة في الخروج .
- بل الغضب .
اعجبت الفتى الاجابة و هم بالتعليق عليها و لكن العجوز قال و هو واضع يده خلف إحدى أذنيه : اسمع ..
ثم أخذ يلف رأسه ببطئ شديد تجاه باب المشروع .
فقال الشاب متعجبا : اسمع ماذا ؟
- اسمع .
فأخذ يشاركه النظر و الانصات لعله يسمع ما سمعه و في لحظة قفز من مكانه كما لو كان شابا و أخذ يجري بسرعة نحو الباب و هو يصرخ : مكانك أيها الوغد . مكانك أيها الوغد .
فركض الفتى وراء العجوز ليرى ما الأمر , فإذا بشخص يقف عند مجموعة الطوب الموضوعة عند بوابة المشروع , كان مديرا ظهره لهم كأن لم يسمع الصراخ , و ما أن أبصر النور الذي يشع من كشاف العجوز حتى لاذ في الفرار , فركض الفتى وراءه حتى أمسكه و جاء به إلى العجوز .
فقال له العجوز : بهذا العمر و تسرق يا وغد ! ماذا تركت للشباب الطائش ؟
فوقف اللص ينظر إليه بانكسار دون أن يتكلم .
- و تتظاهر بأنك مسكين . قالها ساخرا .
فلم يرد , فوثب عليه الشاب الذي كان يلهث من ملاحقته له , و امسك بكتفيه و أخذ يهزه ثم قال : انطق , أم سنتصرف معك بما يليق بمقامك .
فصرخ اللص بصوت غريب صعق لسماعه العجوز و الشاب . فلقد كان أبكم أخرس !
جلس العجوز على إحدى الأحجار و أخذ ينظر للشاب و الأبكم , و في نظراته شيء من الأسى على ما صار لهذا الرجل لم يستطع الشاب أن يفسرها , ثم توجه نحوه و أخذ يخاطبه بلغة الاشارات , دون أن يجد أدنى صعوبة في ذلك , و بعد ذلك التف نحو كومة الأحجار و حمل اثنين منها و اعطاهما له , فنظر إليه الشاب بتعجب فقال : ماذا تفعل ؟
قال له العجوز بصرامة : احمل حجرين آخرين و اذهب معه .
استغرب الشاب : و لماذا ؟! و كيف تتصرف في غير مالك ؟
فرد العجوز و هو عائد إلى حيث كانا يجلسان : إنه يريدها ليرمم مدخل منزله و لا أظن أصحاب المشروع يمانعون في ذلك .
فاحمل اثنين و توجه مع الأبكم و علامة الاستغراب تدور حول رأسه إلى منزله الذي كان قريبا من المشروع .
و بينما هو عائد سمع صوت قريب يأتي من الشارع المجاور , فالتفت نحوه فإذا برجل يركض و تركض وراءه ثلاثة كلاب , تسمر صاحبنا في مكانه لوهلة حتى يستوعب الموقف ثم ركض بسرعة نحو المشروع , و إذا به ينظر إلى وراءه ليجد الرجل يركض وراءه نحو المشروع بشكل لا تلقائي , ثم دخلا المشروع وركضا نحو العجوز الذي استغرب مما يراه , فلم يكن يعرف ماذا هناك .
فصرخ الشاب و هو يركض نحوه : اركض .
فتعجب العجوز مما قاله , لكن ما أن سمع صوت الكلاب حتى ركض نحو البوابة الخلفية للمبنى التي تؤدي إلى القبو و تبعه الشاب و الرجل , و اغلقوا الباب , ثم انسدحوا على الأرض لاهثين .
قال العجوز : ماذا حصل ؟
- كانت الكلاب تلاحق الرجل ثم بدأت بملاحقتي معه .
ثم قال للرجل الذي لم يره بعد حيث أن القبو كان مظلما : ما الخطب يا رجل ؟
فرد الرجل الذي كان يلهث بشدة : لا أعرف .
استغربا من الأجابة , و قال الشاب بنبرة شديدة : كيف لا تعرف اننا هنا عالقون الآن في قبو معتم بثلاثة كلاب تنتظرنا بالخارج .
قال الرجل بنبرة الشخص القابع في الموقف الضعيف : و الله لا أعرف .
فصرخ العجوز على الشاب : لا تخاطبه هكذا إنه أكبر منك سنا .
فقال الرجل محاولا التهدئة : لا يهم هؤلاء هم الشباب دوما .
ثم صمت الجميع و اخذوا في الاستماع إلى النبحات المتقطعة للكلاب .
و بعد مرور بضع من الوقت قال العجوز للشاب بشكل خاص : قل لي يا من سألتني عن الحشرات و النار و عن فوران الشاي , ماذا تمثل لك ظلال الماء ؟
فرد الشاب مستغربا : و هل للماء ظلال .
فقال العجوز مفسرا : ظلال الماء هي ما نراه على الأرض مثلا عندما يخترق شعاع الشمس حوض ماء صغير شفاف .
فهتف الشاب : تقصد انعكاسات الماء كما في أحواض سمك الزينة .
فرد العجوز بلا مبالاة : انعكاسات أم ظلال ذلك لا يهم .
فقال الشاب : الجمال , الضياء , الأمل .
- لا تتعجل يا فتى انظر للشيء بعمق .
- ماذا تمثل هي لك ؟
- لن أخبرك اليوم . سأخبرك غدا إن شاء الله , لأجعل لك فرصة لتفكر بعمق .
فقال الشاب بامتعاض : حسنا حسنا . سأفكر فيها لعلي أصل لجواب يرضيك .
ثم حول كلامه للرجل و قال : لماذا لا تدلو بدلوك معنى ؟
فرد الرجل بنبرة مازحة : في ماذا ؟ ظلال الماء ؟ هذا الأمر لا يهمني .
فصمت الشاب ثم قال له : حسنا ذلك لايهم . لكن لم تعرفنا بنفسك .
فبدأ بالتعريف بنفسه و كان الجميع له منصتين .
قال العجوز : و ماذا كنت تفعل عندما بدأت الكلاب اللعينة بمطاردتك ؟
- كنت عائدا من أحد الدروس الخصوصية .
فقال العجوز بلكنة ملؤها خبث : و هل تجلب هذه الدروس الكثير من النقود ؟ أجبني بصراحة .
أخذ الرجل يتأتئ بكلام غريب كما لو أنه يتفادى الإجابة ثم تمالك نفسه و قال : نعم . تجلب الكثير الكثير من النقود .
- كنت أعرف ذلك . لقد قلت ذلك كثيرا لزوج ابنتي الكبرى . لكنه رجل فاشل استحلى القعود بجوارها .
- يا رجل دعه يعش حياته إن الدروس الخصوصية كالدوامة من يدخلها لا يستطيع أن يخرج منها .
- الرضا بالقليل دون مبرر هو الدوامة التي يجب أن يخرج منها الانسان .
- لكن هذا لا يعني أن نصبح مكائن تطبع النقود .
- بل هو كذلك .
- يا رجل صدقني هذه الدنيا لن ترضى فيها مهما كنت .
- أنا أعي ذلك لكن يجب علينا ألا نذخر جهدا في العمل لسعادتنا .
- تتكلم كما لو كانت السعادة في المال فقط .
- لا ليست في المال فقط , لكن في حالتي المال جزء كبير منها .
- السعادة أن ترفع يديك في هذه الظلمة الحالكة للسماء و تدعو بديع السماوات و الأرض .
- لم نختلف . و لم نختلف في كون الدنيا لا تساوي شيئا .
ثم صمت الاثنين لفترة .
قال الفتى متهكما : جميل أن تسمع حوار بين شخصين يتحدثان مع بعضهما دون أن يرى أحدهما وجه الآخر .
فأضاء العجوز كشافه في وجه الفتى و أخذ يقول : ما بك يا فتى ؟
فصرخ الفتى و وضع يده على عينيه اللتان عجزتا عن تقبل الضوء بعد هذه الظلمة , و بينما هم كذلك سمعوا صوت جلبة في الخارج , فقفز العجوز من مكانه و توجه نحو نوافذ القبو الصغيرة المطلة على ساحة المشروع , و بدأ يحاول رؤية ما يحدث هناك , ثم صعد على مجموعة ضخمة من خراطيم المياه ليصل إلى النوافذ لعله يستطيع الرؤية بشكل أفضل , فرأى شخصين يسحبان قضبان الحديد , فأخذ العجوز يصرخ و يشير بيده خارج النوافذ : أيها الوغدان , يا حقيرين , دعوا القضبان دعوها و إلا جئتكما .
لكنهما لم يأبها له , فانطلق مسرعا نحو باب القبو بعد أن التقط قضيب حديد صغير كان مرميا على أرض القبو ليضرب به الكلاب , و تبعه المدرس و الشاب , فاشتبك الجميع مع الكلاب .
انقض العجوز على أحدها فضربه بينما باغته الآخر من الخلف لكنه فلت منه و ركض نحو بوابة المشروع بينما استمر المدرس و الفتى في ضرب الكلاب حتى هربت , و فجأة سمعا صوت ارتطام قوي بشيء عند بوابة المشروع , فركضا بسرعة نحوها . كان المكان تعتليه فوضى عارمة قضبان الحديد في كل مكان , لكن لا أثر للعجوز .
أخذا يناديان عليه لكنه لم يجيبهما, فتوجه الفتى نحو البوابة ليبحث عنه في الخارج لكنه صعق عندما رأى جسمه مفدوغا على الأحجار عند البوابة .
نظر إلى الأرض فرأى اطارات السيارة تنتهي عند جثته , ثم أخذ يبدل ناظريه بين الجثة و قضبان الحديد المنثورة .